يكشف الغوص في أصل الباستا خيوطًا ثقافية متشابكة، تتجاوز الأطباق الإيطالية ومطاعم روما العريقة. اشتهرت الباستا كرمز للمطبخ الإيطالي، لكن التاريخ يحمل مفاجآت غريبة قد تُربك ذائقتكِ. لسنوات طويلة، رُوّجت الروايات التي تربط اختراع الباستا بالنهضة الإيطالية، لكنّ اكتشافات أثرية ووثائق تاريخية نادرة بدأت تكشف الحقيقة الغائبة.
في هذا المقال، نسلّط الضوء على أصول هذا الطبق الشهي من منظور حضاري، ونفكك أساطير قد تكون رسختها كتب الطهي عن قصد أو عن جهل. لن يكون الحديث مقتصرًا على الروايات الأوروبية، بل نفتح الباب لقراءة آسيوية شرقية قد تغيّر نظرتكِ للأمر.
١- البداية في الصين؟
طرحت سجلات صينية قديمة، تعود إلى أكثر من 4000 عام، فكرة مثيرة حول أصل الباستا. اكتشف علماء في أحد المواقع الأثرية أوعية تحتوي معكرونة مصنوعة من دقيق الدخن، ما يشير إلى أن الصين قد سبقت إيطاليا في إعداد هذا النوع من الأطعمة. لم تذكر كتب الطهي الغربية هذا الاكتشاف كثيرًا، ربّما لأن الفكرة تُزعج سردية “الباستا الإيطالية الخالصة”.
٢- العرب والقمح الصلب
عبر الفتوحات الإسلامية وانتقال العرب إلى صقلية، نُقِلَت معهم تقنيات تصنيع الباستا الجافة من دقيق القمح الصلب. استُخدمت آلات بدائية لتشكيلها، كما نُقلت طرق تجفيفها وتخزينها. تؤكّد بعض المراجع أن العرب هم من نشروا ثقافة الباستا في جنوب إيطاليا، ما يجعلهم عنصرًا أساسيًا في تطوّرها. مع ذلك، غفلت كتب الطهي الغربية عمدًا أو سهوًا عن هذا التفصيل، مكتفية بعرض الطابع الإيطالي الغني.
٣- تغييب ثقافي متعمّد؟
تجنّبت موسوعات الطهي الحديث ذكر المساهمات الشرقية في تطوير أصل الباستا، ربّما لأن سردية الطابع الإيطالي أكثر جذبًا للقارئ الأوروبي. لكنّ مراجعة الأبحاث التاريخية تكشف أن مفهوم “الطابع الوطني” للطعام هو اختراع حديث، نشأ مع ازدهار القوميات الأوروبية في القرن التاسع عشر. قبل ذلك، كانت الأطباق تنتقل وتتغيّر بحسب التجارة والاحتكاك الثقافي.
٤- هل يعيد العالم الاعتبار للأصل؟
بدأت مؤخرًا حركة بحثية في جامعات أمريكية وأوروبية تهدف إلى إعادة قراءة تاريخ الأطعمة الشهيرة. يُنظَر اليوم إلى أصل الباستا كقصّة عابرة للحدود، تداخلت فيها ثقافات آسيوية وعربية وأوروبية. ومع انتشار هذه الحقائق، قد تتغيّر وجهات نظر الطهاة ومحبي الطعام حول هوية الأطباق التي نتناولها يوميًا.
يكشف تاريخ أصل الباستا أن الطعام ليس مجرد وصفة، بل ذاكرة حضارية تعبّر عن التقاء الشعوب. ما اعتُبِر “إيطاليًا بحتًا” قد يكون في جذوره صينيًا أو عربيًا. حين تُخفَى هذه الأصول عن قصد، نخسر فرصة فهم أعمق لتاريخنا المشترك. فلتكن كل وجبة تأكلينها فرصة لطرح الأسئلة، لا فقط للاكتفاء بالمذاق.
