تُعتبر البطاطس المقلية من أكثر الأطعمة شعبية في العالم، حتى أنّها أصبحت رمزًا عالميًا للوجبات السريعة والمطاعم الشهيرة. ومع ذلك، يجهل كثيرون أصل هذه الوجبة التي ترافق البرغر والصلصات الشهية على اختلاف أنواعها. لطالما اعتقد الناس أنّ البطاطس المقلية فرنسية المنشأ، لكنّ الحقيقة التاريخية تروي قصة مختلفة تمامًا، مليئة بالثقافة الشعبية والموروثات الأوروبية القديمة.
ظهرت البطاطس لأول مرة في أوروبا في القرن السادس عشر بعد أن نُقلت من أمريكا الجنوبية. لكنّ طريقة قليها وتقديمها كوجبة جانبية لم تبدأ في فرنسا كما يُشاع، بل في منطقة أخرى كانت غارقة في برد الشتاء وروح البساطة الريفية. من هنا بدأت رحلة هذا الطبق الذهبي، الذي تحوّل من طعام شعبي للفقراء إلى وجبة عالمية تتفنّن المطابخ في تقديمها بمختلف النكهات والأشكال.
١- أصل البطاطس المقلية
يعود أصل البطاطس المقلية إلى بلجيكا في أواخر القرن السابع عشر، حيث كان سكان القرى الفقيرة في منطقة “نامور” يصطادون الأسماك الصغيرة ويقْلونها في الزيت لتناولها في الشتاء. وعندما تجمّدت الأنهار وأصبح الصيد مستحيلًا، لجأوا إلى تقطيع البطاطس على شكل شرائح صغيرة تُشبه السمك وقليها بدلًا من ذلك. ومع مرور الوقت، صارت هذه العادة غذاءً تقليديًا في كل بيت بلجيكي.
سجّلت الوثائق القديمة أنّ البلجيكيين هم أول من قدّم البطاطس المقلية في الأسواق الشعبية، خصوصًا في العاصمة بروكسل. ومن هناك، انتقلت الوصفة إلى فرنسا عبر الجنود الفرنسيين الذين خدموا في الأراضي البلجيكية خلال الحربين العالميتين. ظنّ هؤلاء أنّهم في فرنسا، فسمّوها “French Fries”، وهو الاسم الذي ظلّ شائعًا في الولايات المتحدة حتى اليوم.
٢- رحلة البطاطس المقلية إلى العالم
انتشرت البطاطس المقلية في القرن التاسع عشر بفضل الهجرات الأوروبية إلى أميركا الشمالية، حيث تبنّاها الأميركيون وأدخلوها ضمن قوائم المطاعم الكبرى. أصبحت رمزًا للحداثة والطعام السريع، ورافقت كلّ طبق غربي تقريبًا من شطائر البرغر إلى شرائح اللحم.
لكن رغم شهرتها، ما زالت بلجيكا تحتفظ بمكانتها كموطن أصلي للبطاطس المقلية. فهناك تُقام مهرجانات سنوية مخصّصة للاحتفال بها، ويُعتبر “الفريت” جزءًا من الهوية الوطنية. حتى أن منظمة اليونسكو درست إدراجها ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي نظرًا لأهميتها في الثقافة الشعبية البلجيكية.
اليوم، لم تعد البطاطس المقلية مجرّد طعام بسيط، بل تحوّلت إلى جزء من لغة المطبخ العالمي. تُقدّم في أكياس ورقية بالشوارع أو في أطباق فاخرة بالمطاعم، وتُعدّ بطريقتها الخاصة في كلّ بلد — من البطاطس الرفيعة المقرمشة في فرنسا إلى الشرائح السميكة في بريطانيا ونسخ البطاطس المتبّلة في الشرق الأوسط.

٣- اختلاف طرق التحضير حول العالم
تميّزت البطاطس المقلية بتنوّع طرق إعدادها بين الشعوب. ففي بلجيكا، تُقلى البطاطس على مرحلتين: الأولى على درجة حرارة منخفضة لتُطهى من الداخل، والثانية بدرجة أعلى للحصول على قشرة ذهبية مقرمشة. هذه التقنية تمنحها قوامًا مثاليًا لا مثيل له.
أما في فرنسا، فقد طُوّر الأسلوب ليصبح أكثر أناقة، إذ تُقدَّم البطاطس المقلية بجانب أطباق راقية مثل شرائح اللحم المشوي وصلصة الفلفل الأسود. وفي أميركا، صارت تُغمر بالجبن السائل أو الصوصات الحارّة لتناسب الذوق العصري. في المقابل، أضاف المطبخ العربي لمسته الخاصة من خلال التوابل والزيوت الطبيعية، فجعل منها طبقًا يليق بالمائدة الشرقية بفضل نكهاته الغنية ومذاقه اللذيذ.
وهكذا، باتت البطاطس المقلية مرآةً للثقافات؛ تتكيّف مع العادات المحلية وتجمع بين الذوق البسيط والتاريخ العميق في آنٍ واحد.
٤- البطاطس المقلية في الثقافة الشعبية
أصبحت البطاطس المقلية أكثر من مجرّد طعام؛ فهي تمثّل أسلوب حياة عصريًا مرتبطًا بالراحة والفرح. في السينما والإعلانات، ترمز إلى الشباب والمرح، وتُستخدم كرمز للوجبات السريعة في كلّ أنحاء العالم. حتى في وسائل التواصل الاجتماعي، تنتشر صور البطاطس المقلية كرمز للإدمان الجميل الذي لا يُقاوَم.
لكنّ هذا الانتشار لم يمنع الباحثين من التحذير من الإفراط في تناولها، إذ تحتوي على نسب عالية من الدهون المشبعة والسعرات الحرارية. لذلك، يُنصح دائمًا بالاعتدال في استهلاكها، أو استبدال قليها بالخبز في الفرن أو استخدام الزيوت الصحية مثل زيت الأفوكادو أو زيت الزيتون. وهكذا، يمكن الحفاظ على الطعم نفسه مع فائدة غذائية أكبر.
تُثبت قصة البطاطس المقلية أنّ الطعام ليس مجرّد وصفة، بل هو حكاية ثقافة وسفر وتبادل حضاري. لم تولد في فرنسا كما ظنّ الناس، بل خرجت من قلب بلجيكا الريفية لتغزو العالم كله. اجتمعت فيها البساطة والابتكار، فصارت طبقًا عالميًا يحمل روح كلّ شعب يضعها على مائدته.