تدهش أصول السمبوسة كل من يتعمّق في تاريخ المأكولات الشرقية، فهي ليست مجرّد طبق رمضاني يزيّن الموائد، بل حكاية قديمة تمتد جذورها إلى قرون بعيدة، تنقّلت بين الحضارات والشعوب، وتحوّلت من وجبة فاخرة إلى أكلة شعبية محبوبة. بدأ حضور السمبوسة في الشرق قبل أن تعرفها موائد الخليج والعالم العربي، وانتقلت عبر طرق التجارة القديمة من آسيا إلى الشرق الأوسط، حاملةً معها نكهات الثقافات المختلفة وتقاليدها الغنية.
ومنذ ذلك الزمن، لم تزل السمبوسة تعبّر عن التنوع الثقافي الذي يختبئ خلف عجينتها الرقيقة وحشوتها المتنوعة. ورغم أن شكلها المثلث صار سمة ثابتة، إلا أن كل بلد أضاف إليها لمسة تعبّر عن هويته. فبين من يملؤها باللحم أو الخضار أو الجبن، تبقى الفكرة الأصلية واحدة: تحويل مكوّنات بسيطة إلى طعام يجمع الطيب والذكاء في التحضير.
١- البداية في الشرق القديم
تبدأ أصول السمبوسة من بلاد فارس القديمة، حيث كانت تُعرف باسم “سمبوساغ”، وهي كلمة فارسية الأصل تعني “الشيء المثلّث الشكل”. في تلك الحقبة، كان الطهاة الفرس يملؤون العجين بلحم الضأن المفروم والبصل والتوابل، ثم يقلبونها في الزيت الساخن لتصبح ذهبية اللون ومقرمشة. ولم تكن هذه الوجبة تُقدَّم للعامة فحسب، بل كانت طبقًا مفضّلًا في القصور والاحتفالات الملكية.
انتقلت الوصفة لاحقًا إلى الهند عبر التجّار المسلمين في القرن الثالث عشر، وهناك ازدهرت وأصبحت جزءًا من المطبخ الهندي، خصوصًا في البلاط المغولي. طوّر الهنود مكوّناتها وأضافوا إليها البهارات الحارّة والبطاطا، فظهرت “السموسا” المعروفة اليوم، التي انتشرت من الهند إلى أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وصولًا إلى الجزيرة العربية. هكذا سافرت السمبوسة بين القارات، حاملة معها نكهة كل أرض مرّت بها.
٢- السمبوسة في العالم العربي
حين وصلت أصول السمبوسة إلى الجزيرة العربية، استقبلتها المجتمعات برحابة، وأدخلت عليها تعديلات تعبّر عن الذوق العربي. تحوّلت من طبق احتفالي إلى طعام يومي، خصوصًا في شهر رمضان، حيث أصبحت رمزًا من رموز المائدة الرمضانية. فكل بيت يبدع في تحضيرها بطريقة مختلفة: بعضهم يحشوها باللحم والبصل، وآخرون بالدجاج أو الخضار، وحتى بالجبن أو البطاطا المتبّلة.
وفي اليمن، عُرِفَت السمبوسة منذ قرون باسم “السمبوسة اليمنية”، وكانت تُحضّر في الأعياد والمناسبات الدينية. أمّا في الخليج العربي، فقد تبنّى الناس الوصفة الهندية وأضافوا إليها البهارات المحلية مثل الكركم والهيل، ممّا منحها طابعًا فريدًا يجمع بين النكهة الشرقية والمذاق العربي الأصيل. أمّا في بلاد الشام، فقد فضّل الناس خبزها في الفرن بدل قليها، حرصًا على الطابع الصحي من دون فقدان الطعم المقرمش.

٣- من الفخامة إلى الشعبية
تحوّلت أصول السمبوسة مع مرور الزمن من طعام الملوك إلى أكلة شعبية محبوبة في جميع الطبقات الاجتماعية. ولأنها تجمع بين البساطة في المكوّنات وسهولة التحضير، انتشرت بسرعة في الأسواق والمطاعم والمناسبات العائلية. باتت السمبوسة مرادفًا للضيافة والكرم، وغالبًا ما تُقدّم مع الصلصات المتنوّعة مثل اللبن أو الشطة أو صوص المانغو الهندي.
واليوم، أصبحت السمبوسة طبقًا عالميًا يُحضّر في مختلف أنحاء العالم بأسماء ولهجات متعدّدة. ففي إفريقيا تُعرف بـ“سيموسا”، وفي تركيا بـ“سمبوسك”، وفي باكستان بـ“سموسا”. ورغم اختلاف التسميات، فإن الرابط المشترك بينها واحد: حب الناس للنكهة المقرمشة والحشوة الغنيّة التي تُرضي الذوق أيًّا كان موطنه.
٤- رمزية السمبوسة في الثقافة
تحمل أصول السمبوسة بُعدًا ثقافيًا لا يقل أهمية عن نكهتها. فهي تعبّر عن روح التبادل الحضاري بين الشعوب، وعن قدرة الإنسان على تحويل الطعام إلى لغة مشتركة تجمع ولا تفرّق. وفي كل مجتمع، ارتبطت السمبوسة بالمناسبات المليئة بالبهجة، مثل شهر رمضان أو حفلات الزواج أو الأعياد الدينية، حتى غدت رمزًا للفرح والوفرة واللقاء العائلي.
كما أن شكلها المثلث اكتسب رمزية خاصّة في بعض الثقافات، حيث يرمز إلى التوازن بين العناصر الثلاثة: الروح والجسد والعقل. وهكذا، تجاوزت السمبوسة كونها أكلة لتصبح رمزًا ثقافيًا يروي قصة الحضارة عبر العصور.
تختصر أصول السمبوسة رحلة طويلة من الإبداع الإنساني والتنوّع الثقافي، بدأت في فارس، وازدهرت في الهند، واستقرّت في قلب العالم العربي. ومع كل جيل، ما زال هذا الطبق يحافظ على مكانته كوجبة محبوبة تعكس ذوق الشعوب وتاريخها. فكل قضمة من السمبوسة ليست مجرّد طعم لذيذ، بل ذكرى لماضٍ غنيٍ بالحكايات والتقاليد التي جمعت بين الشرق والغرب على مائدة واحدة.



