جوي عطية، حكاية شغف وُلدت في لبنان

تندر القصص التي تجمع بين الحلم والرؤية، كما تجمعها قصة رائد الأعمال جوي عطية. نحن أمام رجل استطاع أن يحجز لنفسه مكانًا في دليل ميشلان المرموق، وتمكّن من تحويل ذكرياته إلى فلسفة وضعها في رحاب مطاعمه، حيث تلتقي الضيافة بالابتكار، والطعام بالحكايات العائلية العميقة.

اليوم وفي هذه المقابلة الخاصة، يفتح لنا قلبه ليحدثنا عن بداياته في لبنان، وعن الشغف الذي قاده إلى جبال الألب السويسرية، ليتابع رحلته نحو تحقيق حلمه في برشلونة. سيأخذنا في رحلة فريدة يروي فيها تفاصيلاً بشفافية وعاطفة لافتة، لنتعرف معه على التفاصيل التي تصنع الفرق، ورؤيته الخاصة التي جعلت من مطاعمه مساحة تعكس شغفه وتفانيه، ومنصات تروي قصة بلاد الأرز بلغة عالمية.

لنبدأ من الجذور: هل يمكنك أن تخبرنا عن نشأتك في لبنان وكيف أثّرت على شغفك وتجربتك؟

ولدتُ عام 1996 ونشأت في لبنان، حيث أمضيت طفولتي ومراهقتي في بيروت حتى بلغت السابعة عشرة. ومنذ أن كنت صغيرًا، كانت لدي رؤية واضحة لمستقبلي: أردت أن أدرس الضيافة في سويسرا، وأن أفتتح مطعمًا خاصًا بي في برشلونة. هذا الحلم كان البوصلة التي وجّهتني في حياتي.

في لبنان، كان الطعام هو قلب كل شيء – من اللقاءات العائلية والأعياد إلى أيام الأحد الهادئة في الجبال. وقد وُلد شغفي بالمأكولات من العلاقة العميقة التي ربطتني بجديّ. ما زلت أتذكر صباحات الأحد في “محمرش”، عندما كنت أرافق جدي إلى المزرعة الصغيرة لنقطف التين ونجمع البيض الطازج من الدجاج، ولاحقًا، كانت جدتي تحضّر لنا وجبة الغداء باستخدام كل ما جمعناه… كانت طقوسًا دافئة ومليئة بالمحبة.

أما شغفي بفن الضيافة، فقد ورثته من والدي وعائلته، الذين كانوا خبراء حقيقيين في فن الاستقبال. كانوا دائمًا يبذلون جهدًا إضافيًا لجعل كل ضيف يشعر بالتميز. أشخاص يتذكرون أي شيء يعجبك ويحضّرونه لك في المرة القادمة. هذا المستوى من الاهتمام بالتفاصيل ترك أثرًا عميقًا في نفسي.

أما الروح الريادية التي دفعتني نحو تحقيق أحلامي، فقد استمديتها بالكامل من والدتي. لقد كانت مصدر تشجيع لا ينضُب، ودائمًا تدفعني للسعي وراء طموحاتي. قوتها، وإصرارها، وكل ما حققتْه في مسيرتها المهنية في لبنان، هو ما يلهمني حتى اليوم.

كل هذه التأثيرات مجتمعة شكّلت أساس شخصيتي: شخص شغوف بالمأكولات، مخلص لفن الضيافة الحقيقي، وطموح لتحقيق رؤيته الخاصة.

كيف شكّلت إقامتك في إسبانيا مسارك الشخصي وطموحاتك المهنية؟

عندما بلغت 17 عامًا، غادرت لبنان إلى Crans-Montana، وهي بلدة صغيرة في جبال الألب السويسرية، لدراسة الضيافة في معهد Les Roches، إحدى أبرز مدارس الضيافة في العالم وأعرقها. كان هذا الانتقال لحظة فاصلة في حياتي، ليس فقط على المستوى الأكاديمي، بل الشخصي أيضًا.

كانت بيئة عالمية حقيقية، حيث التقيتُ بأشخاص من أكثر من 100 جنسية، مما وسّع آفاقي، وعلّمني قيمة التبادل الثقافي، وأكسبني صداقات تدوم مدى الحياة. والأهم من ذلك، أنه المكان الذي قابلتُ فيه زوجتي في يومي الأول هناك.

بعد إنهاء دراستي، انتقلتُ إلى برشلونة، التي أراها عاصمة فن الطهي. هذه المدينة احتضنت بعضاً من أكثر المطاعم شهرة في العالم وأبرز الطهاة المبتكرين. مجرّد التواجد هنا يشعرني وكأنني في قلب الابتكار الطهوي- مكان لا يكفّ عن إلهامي.

لكنني كنتُ أدرك أن تحقيق حلمي بفتح مطعمي الخاص يتطلّب فهماً أعمق لعالم الطهي ذاته. لذا، التحقتُ ببرنامج الماجستير في فنون الطهي وإدارة المطابخ في جامعة Sant Pol de Mar، وهي مدرسة طهو ساحلية بالقرب من برشلونة.

كانت تلك التجربة نقطة تحول بالنسبة لي. لقد منحتني فهمًا عمليًا لطريقة عمل المطابخ، وصقلت مهاراتي التقنية، والأهم من ذلك، غرست في داخلي احترامًا عميقًا لموسمية المكونات واستدامتها. هذه المبادئ أصبحت جوهر أول مشروع لي، Albé، ولا يزال يُشكل فلسفة العمل في âme اليوم.

كذلك، كان Sant Pol المكان الذي قابلتُ فيه الشيف Pachi Rodriguez، الذي كان يقود المطبخ في Albé، ثم أصبح شريكي في تأسيس âme لاحقًا. لذا، في كثير من النواحي، لم يكن الانتقال إلى إسبانيا مجرد تغيير جغرافي، بل كان بحثًا عن البيئة، والأشخاص، والإلهام الذي يساعدني على تحويل رؤيتي إلى واقع.

يجسّد Albé الروح اللبنانية المعاصرة في برشلونة. ما الذي ألهمك لابتكار هذا المفهوم الفريد؟

في سن الثالثة والعشرين، قررتُ المضي قدمًا في حلم كنتُ أحمله لسنوات ورافقني منذ الصغر. لقد استلهمتُ Albé من القيم الأساسية التي شكلت طفولتي: الروح الريادية لوالدتي، شغف والدي بالضيافة، ورغبتي الشخصية في مشاركة غنى المطبخ اللبناني وثقافته. لكنني لم أرغب في نسخ التقاليد وتكرارها، بل أردتُ إعادة تصورها بأسلوب جديد.

كان الهدف هو ابتكار مفهومٍ يحترم جذوري اللبنانية، وفي الوقت نفسه يتبنّى فلسفة حديثة قائمة على المكونات المحلية والابتكار. وهذا يعني العمل عن قرب مع المزارعين والمنتجين المحليين في إسبانيا، والاعتماد على الموسمية، وتقديم تجربة طعام تحمل روحًا لبنانية معاصرة.

كنتُ مؤمنًا تمامًا بفكرة Albé، وكنتُ على يقين بأن برشلونة تحتاج إلى قصّة كهذه؛ قصة تربط بين الثقافات، وتحتفي بالضيافة، وتعرّف الناس على المطبخ اللبناني بطريقة شخصية ومعاصرة.

إدراج âme في دليل ميشلان إنجاز رائع. كيف ترى هذا الإنجاز ضمن مسيرتك الريادية؟

كان إدراج مطعم âme في دليل ميشلان علامة فارقة بكل معنى الكلمة. لقد شعرنا أنها بمثابة تأكيد هادئ، ولكنه قوي في الوقت ذاته بأن المخاطر التي خضناها، والساعات الطويلة التي بذلناها، والالتزام الثابت بقيمنا لم تمر دون تقدير.

لكنه لم يكن إنجازًا شخصيًا فقط، بل تقدير وتكريم لفريق âme بالكامل، خاصة شريكي المؤسس Pachi Rodriguez، الذي كان سابقًا رئيس الطهاة في Albé ثم أصبح شريكي في تأسيس âme .

بعد ثلاث سنوات على إطلاق Albé، قررنا أنا وPachi إنشاء مشروع جديد معًا – شيء أكثر خصوصية، وتجريبية، وتركيزًا. هكذا وُلدت فكرة âme. أردنا الانتقال إلى نموذج القائمة الثابتة الذي يتيح لنا استكشاف النكهات والتقنيات والموسمية بشكل أعمق. بقينا أوفياء لجذورنا: التعاون مع المنتجين المحليين، والطهي بنزاهة، وابتكار مساحة يكون فيها كل تفصيل – من المكونات إلى الأجواء – مصممًا بعناية.

مفهوم âme مستوحى من الثقافة الفرنسية، واسم المطعم، الذي يعني “الروح” باللغة الفرنسية، يعبر تمامًا عما أردنا تقديمه: تجربة طعام تحمل عمقًا، وشخصية، وروحًا.

وبعد ثلاثة أشهر فقط من افتتاحه، تم إدراج âme في دليل ميشلان. كان هذا التكريم المبكر شرفًا كبيرًا لنا، حيث أكد صحة الخيارات الجريئة التي اتخذناها وعلى الإحساس العميق بالهدف الذي دفعنا لإنجاز هذا المشروع. لكن بالنسبة لي، هذا ليس سوى البداية. تقدير ميشلان أعطانا دفعة لمواصلة توسيع الحدود، والتطوير، والمضي قُدمًا في بناء شيء يُلامس القلوب، داخل المطعم وخارجه.

تم اختيارك ضمن قائمة Forbes 30 Under 30. ما هي القيم أو الرؤية التي تعتقد أنها أوصلتك إلى هذا الإنجاز؟

كان اختياري ضمن قائمة Forbes 30 Under 30 لحظة فخر حقيقية. إنه نوع من التقدير الذي يجعلك تتوقف للحظة، وتتأمل الرحلة – ليس فقط الإنجازات، بل القيم التي قادتك خلالها. بالنسبة لي، هناك بعض المبادئ الأساسية التي شكلت كل ما أقوم به.

أولًا، كنتُ دائمًا مؤمنًا بأن القيادة تبدأ بالأصالة. سواء كان ذلك في مفهوم المطعم، أو الطريقة التي نتعامل بها مع فريقنا، أو كيف نتفاعل مع ضيوفنا، يجب أن يكون لكل قرار هدفٌ حقيقي وراءه. هذا الإحساس بالوضوح والصدق هو شيء أتمسك به دائمًا، خاصة في مجال غالبًا ما يكون مدفوعاً بالاتجاهات المتغيرة.

ثانيًا، كان التحمل والمرونة جزءًا كبيرًا من رحلتي. إطلاق Albé خلال الجائحة علّمني كيفية البقاء ثابتًا وسط عدم اليقين، وكيف أواصل البناء رغم التحديات. أدركتُ أن الإخفاقات والعقبات ليست سوى جزء من العملية، وأن الشغف، عندما يُقرن بالمثابرة والإصرار، يمكن أن يدفعك لتخطّي أصعب اللحظات.

وأخيرًا، أعتقد أن رؤيتي لخق تجارب غنية ثقافيًا ومؤثرة هي ما يترك صدى لدى الآخرين. هدفي لم يكن مجرد افتتاح مطاعم، بل إنشاء أماكن تروي قصة، وتربط بين الناس، وتعكس شيئًا أكبر من ذاتي أنا. هذه الفكرة، إلى جانب الروح الريادية التي ورثتها عن والدتي، هي ما دفعني منذ اليوم الأول.

لذلك، رغم أن تقدير Forbes هو لحظة فخر، إلا أنه في النهاية انعكاس للأشخاص، والقيم، والهدف الحقيقي وراء العمل، وهو أيضاً دافع قوي للاستمرار في التقدم إلى الأمام.

شارك على:
أسرار فن الضيافة على الموائد العالمية

في حفلات العشاء الراقية، لا يقتصر التميز على نكهة الأطباق…

متابعة القراءة
Nespresso تُطلق مجموعتها لهذا الصيف في الإمارات

أطلقت Nespresso نسبريسو مجموعتها لصيف 2025 في الإمارات، معلنةً بداية…

متابعة القراءة