الشيف Nicolas Rouzaud يمزج الحرفة الفرنسية برُوح الشَّرق

حين تتحوّل النّكهات إلى لغة، تصبح الحلويات قصائداً يكتبها طاهٍ يدرك كيف ترتقي البساطة إلى رفاهية، لتكون كلُّ لقمة كإمضاء شخصي تخطُّه يدٌ مبدعة شاهداً على لحظات استثنائية من تقديم الفن الراقي.

من قلب مدينة تولوز الفرنسية، ذلك العالم الذي تتجاوز فيه الحلويات حدودَ الطعم لتصبح أعمالًا فنية تنطق بالحرفية والجمال، نشأ الشيف Nicolas Rouzaud محاطًا بعبق المخابز التقليدية، وانطلق في رحلته المميّزة مع فن الـ Haute Pâtisserie والتي بدأت في سنٍّ مبكرة ليبرز اسمه بعد ذلك كأحد ألمع المبدعين في هذا الفن.

تلقّى الشيف تدريبه في Les Compagnons du Devoir وهي واحدة من أعرق المنظّمات الحرفيّة في أوروبا، وحصل على دبلوم في فنون المعجنات، والشوكولا، والحلويات.

بخبرة فرنسية عريقة وذائقة دقيقة تمزج بين الفنّ والعلم، وبشغف كبير وإبداع متواصل، استطاع الشيف Nicolas أن يترك بصمته في أبرز المطابخ حول العالم، ويقود رؤىً جديدة في صناعة الحلوى الراقية، ويصبح رمزًا للتميُّز في تقديم الأطباق الفاخرة التي تأسر الحواس.

تنقَّل بين أبرز المطابخ في العواصم الأوروبية، من مطعم Le Bristol الباريسي الفاخر، حيث ارتقى إلى منصب First Sous Chef وأدار فريقًا مكونًا من 19 طاهيًا، إلى The Lanesborough في لندن كـ Head Pastry Chef. وفي عام 2017، انضم إلى فندق The Connaught بصفة Executive Pastry Chef، حيث أطلق The Connaught Patisserie، مقدمًا إبداعات تدمج الكلاسيكية بالابتكار من خلال نكهات تمزج الدقة الفرنسية بروح الإبداع.

اليوم، توَّج مسيرته من خلال إطلاقه Maison de Haute Pâtisserie في الشرق الأوسط، وتحديدًا في قطر، لينقل Rouzaud خبرته الواسعة وفلسفته الخاصّة في صناعة الحلوى إلى جمهور جديد، ويفتح نوافذاً على رؤيته التي تتميز بالتفرّد والدقة، محتفيًا بعمق التجربة الحسّية وبالحرفيّة والابتكار في كل التفاصيل الصغيرة.

في هذه المقابلة، نغوص في تفاصيل رحلته، وفلسفته في الطهي، ورؤيته لمستقبل فن الحلويات الفاخرة.

كيف تدمج وتوازن بين الإبداع الفني والدقة العلمية عند تطوير وابتكار وصفات الحلويات، وهل تعتقد أن أحدهما أكثر أهمّية من الآخر؟

صناعة الحلويات هي واحدة من التخصّصات النادرة التي لا يمكن فصل الفن عن العلم فيها. الدقّةُ هي التي تحقّق البنية المميزة – فهي أساس القوام، والتوازن، والتناسق. أما الإبداع فهو الروح الذي يحول التقنية إلى شعور وعاطفة. بالنسبة لي، تبدأ العملية بالحدس – أو بفكرة، أو بمزاج، أو ربما بموسم. وهنا يأتي دور العلم ليصقلها. لا يمكنك تفضيل أحدهما على الآخر، فهما يعملان بشكل متناغم. وهذه الثنائية هي ما يجعل صناعة الحلويات فناً آسراً.

هل هناك مكونات معينة تعتمد في اختيارها على مبادئ علمية؟ وكيف تضمن أن هذه العناصر تعزِّز النكهات وتقدم تجربة تذوق استثنائية؟

بالتأكيد. أحد المبادئ الأساسية في عملي هو استخدام أقل قدر ممكن من السكر المضاف. أؤمن بأن نكهات الفاكهة الطبيعية يجب أن تتحدث عن نفسها ويكون لها أثرها – فهي تُضفي نقاءً وعمقًا لا يُضاهى. يتم اختيار كل مكون ليس فقط بناءً على نكهته، بل بناءً على تركيبته البنيوية – فالحموضة، والرطوبة، والقوام كلها تؤخذ بعين الاعتبار. من الناحية العلمية، الهدف هو تحقيق التوازن المثالي: التباين بين الحلاوة والانتعاش، بين النعومة والقرمشة، وبين الخفّة وغنى المذاق.

ولكن في نهاية المطاف، الأمر يتمحور حول خلق الجانب الحسّي. عندما يكون التوازن صحيحاً، ستكون الحلوى نابضة بالحياة – وتتحول إلى لحظة حسية لا تُنسى. أريد أن توقظ كل قضمة بداخلك شيئاً شخصياًّ، لتثير ذكرياتٍ من الطفولة، أو نكهةً مألوفة، أو شعوراً عابراً. بالنسبة لي، هذه هي القوة الحقيقية للحلويات.

هل تعتقد أن هناك عوامل ثقافية أو تجارية تسهم في تعزيز مكانة قطر كوجهة مميزة للابتكار في فن الحلويات الفاخرة مقارنة بدول أخرى في المنطقة؟

تتمتّع قطر بشغفٍ استثنائي بالفن والتّصميم وفنون الطهي – إنها مكان يقدِّر التميز والابتكار. هناك انفتاحٌ ثقافيٌّ على اللمسات الراقية والتفاصيل، وعلى الصعيد التّجاري، تُعدّ بيئةً مزدهرةً تُعنى بالفخامة بوعيٍ عميق. أكثر ما أثار اهتمامي هو الشغف بالقصص التي ترويها النكهات. الناس هنا لديهم حب الاطّلاع، يقدّرون كل ما هو مميَّز، ويتوقون لتجربة شيءٍ يُشعِرُهم بالأصالة والرقيّ في الوقت ذاته.

إذا كنت ستبتكر حلوى تعكس روح الدوحة وثقافتها، كيف تتوقعها أن تكون؟

لقد قمت بالفعل بابتكار حلوى مميزة خصيصًا للدوحة. شكلها مستوحى من متحف قطر الوطني، وكذلك من اللوحة الجميلة في ردهة فندق Four Seasons The Pearl-Qatar. إنها طريقتي في تكريم المدينة بتصميمها وطاقتها وهويتها الثقافية الراسخة. أما النكهات، فقد استلهمتها من الكنافة، الحلوى التي لفتت انتباهي عند وصولي. تتكون الحلوى من قاعدةٍ من كيك الفستق الطري، مغطاة بطبقة من موس الفستق الخفيف وكريمة الجبن المعطرة بماء زهر البرتقال – وهي رؤيتي الخاصة للحشوة التقليدية. هناك أيضًا طبقة مقرمشة من عجينة الكنافة بالفستق، ويحيط بكل تلك الطبقات غلاف رقيق من شوكولاتة Dulcey لإضفاء شكل وملمس مميزين على الكعكة.

إنها حلوى غنية بالتباينات – طرية ومقرمشة، حلوة ومنعشة – وبالنسبة لي، فهي تحكي قصة انطباعاتي الأولى عن الدوحة. إنها خاصة ومتفرّدة، وآمل أن تلامس مشاعر الناس هنا بأسلوب يحمل الكثير من المعاني.

كيف ترى دور Maison de Haute Pâtisserie في تشكيل معالم فنّ الحلويات الفاخرة في المنطقة؟

لا يقتصر Maison de Haute Pâtisserie على الحلويات فحسب – بل يهدف إلى خلق تجربة عاطفية مستوحاة من الحرفية. في الشرق الأوسط، حيث تُعدّ رواية القصص والضيافة جزءًا لا يتجزأ من الثقافة، نرغب في تقديم شيء شخصيٍّ وذي معنى. نحن نبتكر رؤية جديدة للفخامة في عالم الحلويات – رؤية تحترم التراث، وتراعي المواسم، وتعتبر كل إبداع شكلاً من أشكال الفن.

أشعر بامتنانٍ كبيرٍ لقدرتي على تطوير Maison هنا. لقد كانت ردود الفعل حتى الآن استثنائية ومميزة للغاية، وأنا لا أعتبر ذلك أمراً بديهياً ومسلَّماً به. إنه لشرف كبير أن أكون جزءًا من هذا الفصل الجديد في مشهد صناعة الحلويات في المنطقة – وآمل أن أكون مصدر إلهام لجيل جديد من الطهاة والضيوف لتصبح الحلويات بالنسبة لهم شيئاً يتجاوز حدود الطعم والتذوّق. إنها تتعلق بالشعور والجمال والتواصل.

Maison de Haute Pâtisserie اسم يحمل في طياته دلالات على الفخامة، كيف تعكس هذه السِّمة مع التزامك بالحرفية والتميز؟

الفخامة، بالنسبة لي، تكمن في القصد والتفاصيل. إنها لا تتعلق بالإفراط بل بالنّقاء والتوازن واحترام المكوّنات. في “Maison de Haute Pâtisserie”، نُراعي كل شيء: من قوام الغاناش إلى طريقة تغليف التارت بطبقة لامعة. نُعامل كلّ إبداع وكأنه قطعة فنية، كالمجوهرات الفاخرة أو الأزياء الراقية. الفخامة الحقيقية يمكن الشعور بها بالصمت الذي يسود بين اللقمة والأخرى— إنها شيء يترك انطباعًا يدوم طويلًا دون حاجة إلى كلمات.

بعد إطلاق Maison de Haute Pâtisserie في قطر، هل لديك رؤية محددة لمستقبل حلوياتك الفاخرة، مستوحاةً ربما من ثقافات جديدة في مدن أخرى في الشرق الأوسط؟

نعم، هذه هي البداية فقط. لطالما ألهمني التنوع المذهل الذي يتميز به الشرق الأوسط، بدءًا من أسواق التوابل في مسقط وحتى الألوان والأنسجة في البتراء. كل مكان له إيقاعه الخاص، ونكهاته، وتقاليده، ودائمًا ما أجد نفسي منجذبًا لاكتشاف ما يميّزه.

تتمثّل رؤيتي في استكشاف هذه الهويات الثقافية باحترام، وإعادة صياغتها من منظور الحلويات الفاخرة. لا أريد أن أفرض أي شيء، بل أريد أن أستمع، وأتعلم، وأترجم القصص المحلية والمكونات إلى شيء حقيقيٍّ وصادق وذي معنى. ينبع الإلهام دائمًا مما يحيط بي، وسأستمر في ترك المجال لكل مدينة لتقوم بتشكيل العملية الإبداعية على طريقتها. إنها وسيلة للتواصل بين الثقافات من خلال تجربة التذوّق، وبالنسبة لي، هذا الحوار هو النقطة التي يبدأ منها السحر.

مع توسعك، كيف تضمن أن تحافظ روح Maison de Haute Pâtisserie على هويتها المميزة والفريدة من نوعها؟

كل شيء يبدأ بحفاظنا على قيمنا، الحرفية، والأناقة، والاحترام العميق للطبيعة والمكان. يجب أن يبدو كل موقع أصيلاً وحقيقيّاً، لا أن يكون مجرد نسخة طبق الأصل. نعمل عن كثب مع الفرق المحلية، ونتكيف مع الثقافة المحلية، ونستخدم المكونات الموسمية كلما أمكن. ولكن بغض النظر عن مكان تواجدنا، فإن جوهر الدار يبقى كما هو.

أنا شخصياً أشارك في كل إبداع، خاصة عندما يتعلق الأمر بالطعم. ما لم يكن الطعم والملمس والتوازن مثاليين تمامًا، فلن يصل المنتج إلى المتجر. بالنسبة لي، هذا المستوى من الدقة غير قابل للمساومة، فالتوسع لا يعني التنازل—بل هو فرصة للنمو مع الحفاظ على ما يجعل Maison de Haute Pâtisserie مكاناً فريداً.

رحلته من تولوز إلى الدوحة لم تكن مجرَّد انتقال مكانيٍّ، بل ترجمةً لسنوات من التعلّم، والتجريب، حيث رسم الشيف Nicolas Rouzaud مسارًا حافلًا بالابتكار والتميُّز. وأعاد صياغة علاقتنا بالحلويات الفاخرة كحالةٍ فنية وتجربة ثقافية شاملة، تماماً كما أعاد تعريف مفهوم الضيافة والحلويات الراقية في المنطقة محافظًا على هويّته الفريدة.

فألهمتنا رؤيته المميزة في استخدام المكونات بأسلوب مبتكر، وأثرت بنا تجربته الغنية وشغفه بإبراز الثقافة الفرنسية في كل أطباقه التي تلتقي عندها التقاليد الأوروبية بروح الذوق العربي، وهو يواصل من خلالها رسم ملامح مستقبل الحلويات الفاخرة، وتقديم إبداعاته التي تمزج بين التراث والحداثة بلمسة من الابتكار لا نهاية لها.

شارك على:
التكنولوجيا وتعزيز رفاهية الحياة

يُعتبر العالم الذي نعيش فيه اليوم تجسيداً للابتكارات التكنولوجية التي…

متابعة القراءة
حلوى البانا كوتا شهية ومنعشة!

حلوى الباناكوتا من الوصفات المنعشة التي يمكن التلذذ بتناولها في…

متابعة القراءة
فن التواصل في الضيافة المنزلية

تُعتبر الضيافة المنزلية من أجمل صور التّواصل الاجتماعي، حيث تعكس…

متابعة القراءة