تبدأ حكاية حبوب القهوة منذ قرون طويلة، عندما اكتشف الإنسان للمرة الأولى هذا الكنز البني الذي أصبح رمزًا للدفء والطاقة في كلّ بيت. لا أحد اليوم يستطيع أن يتخيّل صباحه من دون فنجان قهوة يوقظ الحواس ويثير الحنين. لكنّ السؤال الذي يثير الفضول هو: من هو البلد الأول الذي اكتشف هذه الحبوب السحرية التي غيّرت عادات العالم وثقافته؟
تتشابك الأساطير والحقائق في قصة حبوب القهوة، بين الروايات الدينية والحكايات الشعبية التي انتقلت من جيل إلى جيل. ويكشف البحث في التاريخ عن رحلة مدهشة تبدأ من جبال أفريقيا، وتصل إلى قلب العالم العربي، حيث تحوّلت القهوة إلى ثقافة وحضارة بحدّ ذاتها.
١- البدايات في أرض إثيوبيا
تبدأ القصة من المرتفعات الخضراء في إثيوبيا، وتحديدًا في منطقة تُعرف اليوم باسم “كاڤا”. تقول إحدى أشهر الروايات إنّ راعيًا يُدعى “كالدي” لاحظ نشاطًا غريبًا في ماشيته بعدما تناولت بعض الثمار الحمراء من شجرة غريبة. دفعه الفضول لتجربة هذه الثمار بنفسه، فشعر بطاقة غير معتادة. ومن هنا وُلدت الأسطورة الأولى لاكتشاف حبوب القهوة.
انتقلت الحكاية إلى الأديرة القريبة، حيث استخدم الرهبان هذه الحبوب في تحضير شراب يساعدهم على السهر أثناء الصلاة. ومع الوقت، أدرك الناس القيمة الفريدة لهذه الثمار التي لم تكن تُشرب فقط، بل كانت تُعبّر عن طقوس روحية واجتماعية عميقة.
وهكذا، يمكن القول إنّ إثيوبيا كانت المهد الأول للقهوة، البلد الذي قدّم للعالم أحد أكثر المشروبات تأثيرًا في التاريخ الإنساني.
٢- الرحلة إلى اليمن
عبرت حبوب القهوة البحر الأحمر إلى اليمن، وهناك بدأت مرحلة جديدة من حياتها. في مدينة “المخا”، وُلدت شهرة القهوة العربية، وانتشر اسمها في العالم بفضل الميناء التجاري الذي صدّرها إلى مختلف البلدان.
يُقال إنّ الصوفيين في اليمن استخدموا القهوة لمساعدتهم على البقاء مستيقظين في حلقات الذكر الطويلة، فصارت رمزًا للتركيز والصفاء الروحي.
وبعد فترة قصيرة، تحوّلت القهوة إلى مشروب يومي في البيوت والمجالس، وأصبح إعدادها فنًا عربيًا أصيلًا يعتمد على الدقة والكرم. في تلك المرحلة، لم تعد القهوة مجرد مشروب، بل أصبحت لغةً من لغات التواصل الاجتماعي، تعبّر عن الضيافة والمحبة.

٣- من الموانئ العربية إلى أوروبا والعالم
بدأت حبوب القهوة رحلتها الطويلة إلى أوروبا في القرن السادس عشر، حين نقلها التجار العرب إلى موانئ مثل إسطنبول والإسكندرية والبندقية.
سرعان ما أثارت القهوة فضول الأوروبيين، خصوصًا بعد أن شاهدوا كيف يحتسيها العرب في المقاهي. في البداية، واجهت القهوة اعتراضًا دينيًا في بعض الدول، إذ ظنّها البعض “شرابًا شيطانيًا”، لكنّ العلماء سرعان ما أدركوا فوائدها الصحية وقدرتها على تنشيط الذهن.
في القرن السابع عشر، بدأت المقاهي تنتشر في لندن وباريس وروما، وصارت أماكن للنقاشات الفكرية والتجارية. ومن هناك، انتشرت زراعة القهوة إلى آسيا وأمريكا اللاتينية، فبدأت مرحلة الإنتاج العالمي التي جعلت من حبوب القهوة تجارة كبرى ومصدرًا لاقتصادات كاملة.
٤- رمزية القهوة في الثقافة العربية
لا يمكن الحديث عن حبوب القهوة من دون التوقف عند رمزيتها في الثقافة العربية. فالقهوة ليست فقط مشروبًا، بل طقسًا متكاملًا يعبّر عن الكرم والأنس والترابط الاجتماعي.
في بيوت العرب، يسبق تقديم القهوة أي حديث رسمي، ويُعتبر رفضها نوعًا من عدم الاحترام. لكلّ منطقة طريقتها الخاصّة في تحضيرها: القهوة السعودية بطعم الهيل، والتركية بقوامها الكثيف، والعربية الأصيلة بنكهتها المرة التي ترمز إلى الرجولة والوفاء.
حتى في الأدب والشعر، حضرت القهوة كرمز للعشق والحنين، وكأنّها مرآة للروح العربية التي تمزج بين الصبر والمتعة. وفي عصرنا الحديث، ما زالت المقاهي تجمع الناس حول فنجان صغير، يحمل معه عبق التاريخ ورائحة الأرض.
من إثيوبيا إلى اليمن، ومن هناك إلى كلّ ركن من العالم، سافرت حبوب القهوة لتصبح جزءًا من حياة البشر اليومية. قصتها ليست فقط عن مشروب، بل عن حضارةٍ كاملة نقلت طاقة الطبيعة إلى الإنسان.
وبرغم مرور القرون، ما زال فنجان القهوة يحمل في طياته لمسةً من السحر القديم، تلك التي اكتشفها راعٍ بسيط في أرضٍ بعيدة، ليصنع منها العالم رمزًا للصفاء والإبداع.