منذ قرونٍ طويلة، شكّلت القهوة والتمر رمزًا متأصّلاً في الضيافة العربية، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من هوية المجالس الخليجية. ولأنّ السؤال عن كيف وُلدت عادة القهوة والتمر في المجالس الخليجية يأخذنا إلى عمق الثقافة العربية، فإنّ الجواب لا يقتصر على المذاق أو العادة، بل يمتدّ إلى جذور التاريخ والتقاليد التي صاغت شخصية المجتمع الخليجي عبر الزمن.
ارتبطت هذه العادة بالكرم، بالشرف، وبفنّ استقبال الضيف، وهي مفاهيم تعكس القيم التي تربّت عليها الأجيال في شبه الجزيرة العربية. في هذا المقال، تُروى القصة من بداياتها الأولى، مرورًا بتحوّلها إلى طقس يومي، وصولًا إلى رمزيتها في العصر الحديث، مع لمسة من الأصالة التي لا تزال تُحافظ على وهجها رغم تغيّر الزمن.
١- البدايات الأولى: من الصحراء إلى المجالس
بدأت عادة تقديم القهوة والتمر في الصحراء، حين كانت القبائل تعيش على الكفاف وتعتبر الضيف بركةً يجب الاحتفاء بها. في تلك البيئة القاسية، لم يجد العربي ما يُقدّمه لضيوفه سوى ما يتوافر بين يديه من أبسط الموارد: التمر من نخله، والقهوة من حبّه المحمّص يدويًا على النار. ومع مرور الزمن، تحوّلت هذه البساطة إلى طقسٍ مقدّس من طقوس الكرم.
حين تُقدَّم القهوة أولًا، يُعلن صاحب البيت استعداده للضيافة، ثم يأتي التمر ليُكمّل المعنى، فيجمع بين الطاقة واللذة والرمز. فالقهوة تُنعش الروح، والتمر يُغذّي الجسد، وبهذا التزاوج بينهما تنشأ علاقة متكاملة تعبّر عن توازن الحياة في الثقافة الخليجية. لذلك، حين تُطرح اليوم عبارة كيف وُلدت عادة القهوة والتمر في المجالس الخليجية، يكون الجواب في تلك العلاقة الإنسانية التي جمعت الضرورة بالكرم، والبساطة بالعراقة.
٢- القهوة: أكثر من مشروب
تحوّلت القهوة من مجرد مشروب إلى لغة تواصل اجتماعي تحمل دلالات دقيقة. يُقال إنّ طريقة صبّ القهوة وحجم الفنجان وحتى عدد الرشفات كلّها إشارات تعبّر عن مواقف الضيف والمضيف. فحين يصبّ المضيف القهوة باليد اليمنى، يُظهر احترامه، وحين يهزّ الضيف الفنجان، يعلن اكتفاءه. هذه التفاصيل الدقيقة تُشكّل جزءًا من فنّ الضيافة الذي يُدرَّس من جيلٍ إلى آخر.
تُحمَّص القهوة بلونها الذهبي الفاتح في المجالس الخليجية، ويُضاف إليها الهيل والزعفران لتمنحها نكهة تُميّزها عن سائر مناطق العالم العربي. ومع كل رشفة، تُستعاد ذكريات اللقاءات العائلية والجلوس في الديوانيات، حيث تُناقش القضايا وتُعقد الصفقات وتُنسج العلاقات. فالقهوة ليست مشروبًا يوميًا فحسب، بل حكاية عن الأصالة والانتماء، وركن ثابت في الإجابة على كيف وُلدت عادة القهوة والتمر في المجالس الخليجية.
٣- التمر: غذاء الجسد والرمز الروحي
منذ العصور القديمة، عُدَّ التمر غذاءً رئيسياً للعرب، لما يحتويه من عناصر غذائية تمنح الطاقة وتُقاوم الجوع. لكنه لم يكن مجرّد طعام، بل رمزًا للعطاء والوفرة. فعندما يُقدَّم التمر مع القهوة، يُصبح إشارة إلى أنّ الكرم في الخليج لا يقتصر على الشكل، بل يمتدّ إلى المضمون.
يحمل التمر بعدًا روحيًا عميقًا أيضًا؛ فقد ارتبط بالسنة النبوية الشريفة التي أوصت بالتمر لما فيه من بركة. ومن هنا، اكتسب وجوده في المجالس الخليجية قداسةً رمزية. فالمجلس لا يكتمل من دون طبق تمر يزيّنه الأصيل من أصنافه كالخلاص والسكري والمجدول. وبهذا الوجود الثابت، استقرّ التمر إلى جانب القهوة كعنصرين يُجسّدان هوية الضيافة العربية التي لا تُشبه سواها. لذلك، حين يُطرح مجدداً السؤال كيف وُلدت عادة القهوة والتمر في المجالس الخليجية، يكون الجواب في هذا الترابط بين الروح والجسد، بين الطعم والمعنى، بين العادة والإيمان.
٤- من العادة إلى الإرث الثقافي الحديث
مع تطوّر الحياة في الخليج وازدهار المدن، لم تتراجع عادة القهوة والتمر، بل ازدادت حضورًا. فالمجالس الحديثة في البيوت والفنادق والمناسبات الرسمية ما زالت تبدأ بفناجين القهوة وتمر الضيافة. وقد تحوّلت هذه الطقوس إلى هوية ثقافية يُحتفى بها في المهرجانات الوطنية، مثل “يوم القهوة السعودية” و”مهرجان التمر الدولي”.
تُدرّس اليوم هذه العادات في المدارس ضمن برامج التراث الوطني، لتبقى حاضرة في ذاكرة الأجيال الجديدة. كما باتت المقاهي الحديثة تحافظ على هذا الطابع الأصيل بتقديم القهوة العربية في دلال نحاسية تقليدية. وبهذا الاستمرار، تُثبت المجتمعات الخليجية أنّها قادرة على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وأنّ الإجابة على كيف وُلدت عادة القهوة والتمر في المجالس الخليجية لا تُروى فقط في الكتب، بل تُعاش كلّ يوم في تفاصيل الحياة اليومية.
