يتفرّد الطعام التراثي في أبوظبي بقدرته الفريدة على جمع ملامح الماضي وروح الحاضر في لقمة واحدة، تُعيد الزائر والمقيم إلى جذور المكان، وتروي حكاية الصحراء والبحر والنخيل. في كل طبق تُقدَّم نكهة التاريخ، تفوح منها رائحة الأصالة التي لا تُمحى رغم مرور الزمن. وتبقى المائدة الإماراتية، بأطباقها التقليدية الغنية بالتوابل والمكونات المحلية، جسرًا يربط الأجيال ويمنح الهوية طابعًا حيًّا نابضًا بالحب والكرم.
في هذا المقال، تُروى حكاية الطعام التراثي في أبوظبي من زواياها المختلفة، بين تفاصيل التحضير ومظاهر الضيافة، وبين الدور الثقافي والاجتماعي الذي يحمله كل طبق. من خلال هذه الرحلة، يتجلّى كيف استطاع التراث أن يجد مكانه وسط حداثة المدينة، من دون أن يفقد دفء البدايات.
١- نكهة التاريخ في المائدة الإماراتية
يحمل الطعام التراثي في أبوظبي عبق التاريخ الذي صاغ ملامح المطبخ المحلي منذ قرون. استمدّ أهله وصفاتهم من البيئة التي عاشوا فيها، فاعتمدوا على ما تقدّمه الصحراء والبحر من مكونات بسيطة، حوّلوها بإبداع إلى أطباق غنية بالنكهات والمعاني. يُروى أن النساء في البيوت القديمة كنّ يطحنَّ البهارات بأيديهنّ، ويمزجنها مع الأرزّ واللحم ليُقدّمن أطباقًا تعبّر عن دفء العائلة وتماسك المجتمع.
ولم تكن المائدة مجرد وسيلة للشبع، بل كانت رمزًا للعطاء والكرم. فحين يجتمع الناس حول طبق “الهريس” أو “الثريد”، لا يتشاركون الطعام فقط، بل يتبادلون القصص والذكريات. ومع تطوّر الزمن، ظلّت تلك الأطباق حاضرة في المناسبات الوطنية والأعياد، كأنها وثيقة حيّة تحفظ هوية المكان.
٢- مكونات تعبّر عن روح الأرض
تُستمدّ نكهات الطعام التراثي في أبوظبي من البيئة الإماراتية نفسها، حيث تلتقي الصحراء بالبحر في لوحة طبيعية ساحرة. من التمر الذي يرمز إلى الكرم، إلى الأرزّ القادم من بلاد بعيدة عبر طرق التجارة القديمة، إلى الأسماك التي كانت تُشكّل جزءًا أساسيًا من غذاء الصيادين، تتنوّع المكونات لتجسّد تنوّع الحياة في المنطقة.
وقد احتفظت الأطباق بطرق تحضيرها الأصيلة رغم تغيّر الزمن. فطبق “المجبوس” مثلًا ما زال يُطهى على نار هادئة ليحافظ على عمق نكهته، بينما يُعَدّ “اللقيمات” رمزًا للحلاوة والبساطة في المناسبات. هذه المكونات ليست مجرّد عناصر غذائية، بل هي لغة تُعبّر عن علاقة الإنسان بالأرض، وعن تقديره لما تمنحه الطبيعة من خيرات.

٣- بين الحداثة والحفاظ على الأصالة
في زمنٍ تتسارع فيه أنماط الحياة الحديثة، استطاع الطعام التراثي في أبوظبي أن يحافظ على مكانته المرموقة في قلب المائدة الإماراتية. لم يختفِ أمام المطابخ العالمية، بل تزيّن بها وتكامل معها. تُقدَّم اليوم الأطباق التراثية في أرقى الفنادق والمطاعم، تُطهى بأساليب حديثة من دون المساس بجوهرها، لتُظهر كيف يمكن للتقاليد أن تتجدّد بدون أن تفقد هويتها.
كما تؤدّي المبادرات الثقافية دورًا كبيرًا في نشر هذا التراث، من خلال مهرجانات الطعام والمناسبات الوطنية التي تُعيد تقديم المأكولات الشعبية بطريقة فنية. وهكذا يتحوّل الطبق الإماراتي من مجرد وجبة إلى تجربة ثقافية متكاملة، يعيشها الزائر بشغف، ويتعرّف من خلالها إلى روح المكان.
٤- المائدة كجسر بين الأجيال
يُعتبر الطعام التراثي في أبوظبي وسيلة للتواصل بين الأجيال، إذ تنقل الجدّات وصفاتهنّ إلى الأحفاد كأنها أمانة تُحفظ في الذاكرة. في كلّ بيت إماراتي، تبقى تلك الأطباق جزءًا من الطفولة ومن طقوس المناسبات العائلية. فالمائدة لم تكن يومًا مجرّد مكان للأكل، بل فضاء للحبّ والمشاركة والحنين.
في المدارس والفعاليات التراثية، يتعلّم الصغار كيف يُعدّون الأطباق القديمة، فيكتشفون من خلالها قصصًا عن الصبر والعمل والكرم. وهكذا يُغرس حب التراث في النفوس، ليبقى حاضرًا في المستقبل كما كان في الماضي.
يبقى الطعام التراثي في أبوظبي مرآة تعكس جمال الهوية الإماراتية، وجسرًا يصل بين ماضٍ مجيد وحاضرٍ متألّق. في كلّ لقمة من الهريس أو كل رشفة من القهوة العربية، تختبئ حكاية وطنٍ أحبّ أرضه وكرّم ضيوفه. وبينما تتطوّر المدينة وتواكب العالم، يبقى التراث الغذائي شاهدًا على أن الحداثة لا تُلغي الأصالة، بل تمنحها حياة جديدة في كلّ زمن.