يتجلّى أصل الزعفران كأحد أسرار الحضارات القديمة التي نسجت حوله الأساطير والعطور والذهب الأحمر. اكتسبت هذه الزهرة البنفسجية، التي تُلقَّب بزهرة السعادة، قيمة استثنائية منذ آلاف السنين لما تحمل من لون فريد ورائحة لا تُنسى. عُرف الزعفران رمزًا للفخامة والقداسة، واستخدمته الملكات في التجميل، كما دخل في الطقوس الدينية والعلاجية والعطور الشرقية الفاخرة.
ولأنّ الزعفران ليس مجرّد توابل، بل حكاية حضارة وثراء، ستأخذك هذه السطور في رحلة إلى تاريخه العريق، وأصوله الجغرافية، ومسيرته من زهرة نادرة إلى كنز يُقدَّر بالغرام، قبل أن نتعرّف على دوره في الثقافة والجمال عبر العصور.
١- من أين بدأ الزعفران؟
يُعتقد أنّ أصل الزعفران يعود إلى منطقة كشمير وجبال زاغروس الممتدة بين إيران واليونان. ومع ذلك، تشير بعض الدراسات التاريخية إلى أنّ الزعفران استُخدم أولًا في الحضارة المينوسية في جزيرة كريت قبل أكثر من ٣٥٠٠ عام. رسم الإغريق الزعفران على جدران القصور، واستخدموه لصبغ الأقمشة وللتداوي، بينما قدّره الفُرس كرمز للنقاء والفرح. امتدّ بعد ذلك إلى الهند والصين، حيث استُخدم في الطب التقليدي، ثم وصل إلى العالم العربي في العصر العباسي، حين ازدهرت تجارة التوابل من الشرق إلى الأندلس. هكذا انتقل الزعفران بين القارات، حاملًا معه عبق التاريخ ودفء الشمس الشرقية.
٢- الزعفران بين الأسطورة والواقع
حاك الناس حول أصل الزعفران أساطير عدّة. ففي الأسطورة الإغريقية، تحوّل الشاب كروكوس إلى زهرة زعفران بعد أن عشق الحورية سميلكس، فأصبح رمزًا للحبّ الخالد. وفي الحضارة الفارسية، اعتُبر الزعفران هدية من السماء، يجلب الفرح ويُبعد الحزن. غير أنّ الواقع لا يقلّ سحرًا عن الخيال، إذ تُنتج كلّ زهرة ثلاث خيوط فقط من الزعفران، ويستلزم الحصول على كيلوغرام واحد منه قطف ما يقارب ١٥٠ ألف زهرة يدويًا. هذه الدقّة جعلت منه أغلى التوابل في العالم، ورفعته إلى مرتبة “الذهب الأحمر”.

٣- الزعفران في الثقافة العربية
دخل الزعفران مبكرًا إلى الثقافة العربية، واكتسب مكانة رفيعة في الطب والعطور والمائدة. استُخدم في الطب النبوي لعلاج القلب والمعدة وتحسين المزاج، وذكره الأطباء المسلمون مثل ابن سينا في القانون في الطب كعنصر منشّط ومطهّر. كما استُخدم في كتابة المصاحف القديمة بماء الزعفران تقديسًا لكلماته. ولم يقتصر دوره على الطب والدين، بل أصبح جزءًا من تقاليد الضيافة والاحتفالات، خصوصًا في الخليج العربي حيث يُضاف إلى القهوة والحلويات ليمنحها لونًا ذهبيًا ورائحة شرقية تملأ المكان بالدفء.
٤- الزعفران بين الجمال والثروة
تحوّل الزعفران من رمز روحي إلى عنصر جمالي واقتصادي ضخم. دخل في صناعة العطور الباريسية الفاخرة، واستُخدِم في أقنعة البشرة بفضل خصائصه المضادّة للأكسدة والمفتّحة للبشرة. واليوم، تشتهر إيران وإسبانيا والمغرب بإنتاج أجود أنواع الزعفران في العالم. تحتل إيران المركز الأوّل عالميًّا بنسبة تفوق ٨٠٪ من الإنتاج، فيما يُعرَف الزعفران الإسباني بطعمه الدافئ ولونه البرتقالي المشرق. وبفضل قيمته العالية، أصبح الزعفران سلعة استراتيجية تُتداول كالثروة، ويُعدّ امتلاكه في بعض المناطق رمزًا للمكانة والكرم.
يبقى أصل الزعفران أكثر من مجرّد تاريخٍ لتوابلٍ نادرة، فهو قصةُ عطرٍ وبهاءٍ نسجتها الأيادي البشرية عبر الزمن. يختصر الزعفران جوهر الشرق في لونٍ واحد، يجمع بين الشمس والأرض والحبّ، ويذكّرنا بأنّ وراء كلّ قطرة عطر أو لمسة لون، هناك زهرة صغيرة تحكي حكاية العالم.